الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* الحديث: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعَثَهُ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُونَ فِي النَّاسِ أَنْ لَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ فَكَانَ حُمَيْدٌ يَقُولُ يَوْمُ النَّحْرِ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ مِنْ أَجْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الشرح: قوله: (حدثني إسحاق) هو ابن منصور كما جزم به المزي ويعقوب بن إبراهيم أي ابن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وصالح هو ابن كيسان، وقد تقدم في أوائل الصلاة من رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن ابن أخي ابن شهاب عن عمه، فله فيه طريقان، وسياقه عن ابن أخي ابن شهاب موافق لسياق عقيل، وأما رواية صالح فوقع في آخرها " فكان حميد يقول: يوم النحر يوم الحج الأكبر، من أجل حديث أبي هريرة " وهذه الزيادة قد أدرجها شعيب عن الزهري كما تقدم في الجزية ولفظه عن أبي هريرة " بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى: لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، ويوم الحج الأكبر يوم النحر، وإنما قيل الأكبر من أجل قول الناس الحج الأصغر، فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام فلم يحج عام حجة الوداع التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم مشرك " انتهى وقوله " ويوم الحج الأكبر يوم النحر " هو قول حميد بن عبد الرحمن استنبطه من قوله تعالى وكأن هذه الأخيرة كالتوطئة لأن لا يحج البيت مشرك، وأما التي قبلها فهي التي اختص علي بتبليغها، ولهذا قال العلماء: إن الحكمة في إرسال علي بعد أبي بكر أن عادة العرب جرت بأن لا ينقض العهد إلا من عقده أو من هو منه بسبيل من أهل بيته، فأجراهم في ذلك على عادتهم، ولهذا قال " لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل من أهل بيتي " وروى أحمد والنسائي من طريق محرر بن أبي هريرة عن أبيه قال كنت مع علي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ببراءة، فكنا ننادي أن لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فأجله أربعة أشهر فإذا مضت فإن الله بريء من المشركين ورسوله، ولا يحج بعد العام مشرك. فكنت أنادي حتى صحل صوتي " وقوله وإنما قيل الأكبر إلخ في حديث ابن عمر عند أبي داود وأصله في هذا الصحيح رفعه " أي يوم هذا؟ قالوا: هذا يوم النحر، قال: هذا يوم الحج الأكبر " واختلف في المراد بالحج الأصغر فالجمهور على أنه العمرة، وصل ذلك عبد الرزاق من طريق عبد الله بن شداد أحد كبار التابعين، ووصله الطبري عن جماعة منهم عطاء والشعبي، وعن مجاهد: الحج الأكبر القران والأصغر الإفراد. وقيل يوم الحج الأصغر يوم عرفة ويوم الحج الأكبر يوم النحر لأن فيه تتكمل بقية المناسك. وعن الثوري: أيام الحج تسمى يوم الحج الأكبر كما يقال يوم الفتح. وأيده السهيلي بأن عليا أمر بذلك في الأيام كلها. وقيل لأن أهل الجاهلية كانوا يقفون بعرفة وكانت قريش تقف بالمزدلفة، فإذا كانت صبيحة النحر وقف الجميع بالمزدلفة فقيل له الأكبر لاجتماع الكل فيه، وعن الحسن: سمي بذلك لاتفاق حج جميع الملل فيه: وروى الطبري من طريق أبي جحيفة وغيره: أن يوم الحج الأكبر يوم عرفة. ومن طريق سعيد بن جبير أنه النحر. واحتج بأن اليوم التاسع وهو يوم عرفة إذا انسلخ قبل الوقوف لم يفت الحج بخلاف العاشر فإن الليل إذا انسلخ قبل الوقوف فات. وفي رواية الترمذي من حديث علي مرفوعا وموقوفا " يوم الحج الأكبر يوم النحر " ورجح الموقوف، وقوله "فنبذ أبو بكر إلخ " وهو أيضا مرسل من قول حميد بن عبد الرحمن، والمراد أن أبا بكر أفصح لهم بذلك، وقيل إنما لم يقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ أبي بكر عنه ببراءة لأنها تضمنت مدح أبي بكر، فأراد أن يسمعوها من غير أبي بكر، وهذه غفلة من قائله حمله عليها ظنة أن المراد تبليغ براءة كلها، وليس الأمر كذلك لما قدمناه، وإنما أمر بتبليغه منها أوائلها فقط، وقد قدمت حديث جابر وفيه " أن عليا قرأها حتى ختمها " وطريق الجمع فيه، واستدل به علي أن حجة أبي بكر كانت في ذي الحجة على خلاف المنقول عن مجاهد وعكرمة بن خالد، وقد قدمت النقل عنهما بذلك في المغازي، ووجه الدلالة أن أبا هريرة قال " بعثني أبو بكر في تلك الحجة يوم النحر " وهذا لا حجة فيه لأن قول مجاهد إن ثبت فالمراد بيوم النحر الذي هو صبيحة يوم الوقوف سواء كان الوقوف وقع في ذي القعدة أو في ذي الحجة. نعم روى ابن مردويه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال " كانوا يجعلون عاما شهرا وعاما شهرين " يعنى يحجون في شهر واحد مرتين في سنتين ثم يحجون في الثالث في شهر آخر غيره، قال: فلا يقع الحج في أيام الحج إلا في كل خمسة وعشرين سنة، فلما كان حج أبي بكر وافق ذلك العام شهر الحج فسماه الله الحج الأكبر. (تنبيه) : اتفقت الروايات على أن حجة أبي بكر كانت سنة تسع، ووقع في حديث لعبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة في قوله: ثم أمر أبا بكر الصديق على تلك الحجة. قال الزهري: وكان أبو هريرة يحدث أن أبا بكر أمره أن يؤذن ببراءة، ثم أتبع النبي صلى الله عليه وسلم عليا، الحديث. قال الشيخ عماد الدين بن كثير: هذا فيه غرابة من جهة أن الأمير في سنة عمرة الجعرانة كان عتاب بن أسيد، وأما حجة أبي بكر فكانت سنة تسع. قلت: يمكن رفع الإشكال بأن المراد بقوله " ثم أمر أبا بكر " يعني بعد أن رجع إلى المدينة وطوى ذلك من ولي الحج سنة ثمان. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من العمرة إلى الجعرانة فأصبح بها توجه هو ومن معه إلى المدينة، إلى أن جاء أوان الحج فأمر أبا بكر وذلك سنة تسع. وليس المراد أنه أمر أبا بكر أن يحج في السنة التي كانت فيها عمرة الجعرانة. وقوله "على تلك الحجة " يريد الآتية بعد رجوعهم إلى المدينة. *3* الشرح: قوله: (باب قوله تعالى فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم) قرأ الجمهور بفتح الهمزة من أيمان، أي لا عهود لهم وعن الحسن البصري بكسر الهمزة وهي قراءة شاذة، وقد روى الطبري من طريق عمار بن ياسر وغيره في قوله: الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ فَقَالَ مَا بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ وَلَا مِنْ الْمُنَافِقِينَ إِلَّا أَرْبَعَةٌ فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ إِنَّكُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُخْبِرُونَا فَلَا نَدْرِي فَمَا بَالُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَبْقُرُونَ بُيُوتَنَا وَيَسْرِقُونَ أَعْلَاقَنَا قَالَ أُولَئِكَ الْفُسَّاقُ أَجَلْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا أَرْبَعَةٌ أَحَدُهُمْ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَوْ شَرِبَ الْمَاءَ الْبَارِدَ لَمَا وَجَدَ بَرْدَهُ الشرح: قوله: (حدثنا يحيى) هو ابن سعيد، وإسماعيل هو ابن أبي خالد. قوله: (ما بقي من أصحاب هذه الآية إلا ثلاثة) هكذا وقع مبهما ووقع عند الإسماعيلي من رواية ابن عيينة عن إسماعيل بن خالد بلفظ " ما بقي من المنافقين من أهل هذه الآية وقد وافق البخاري - على إخراجها عند آية براءة - النسائي وابن مردويه، فأخرجاه من طرق عن إسماعيل، وليس عند أحد منهم تعيين الآية، وانفرد ابن عيينة بتعيينها، إلا أن عند الإسماعيلي من رواية خالد الطحان عن إسماعيل في آخر الحديث " قال إسماعيل: يعني الذين كاتبوا المشركين " وهذا يقوي رواية ابن عيينة، وكأن مستند من أخرجها في آية براءة ما رواه الطبري من طريق حبيب بن حسان عن يزيد بن وهب قال " كنا عند حذيفة فقرأ هذه الآية وروى الطبري من طريق السدي قال: المراد بأئمة الكفر كفار قريش. ومن طريق الضحاك قال: أئمة الكفر رءوس المشركين من أهل مكة. قوله: (إلا ثلاثة) سمي منهم في رواية أبي بشر عن مجاهد أبو سفيان بن حرب. وفي رواية معمر عن قتادة أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وأبو سفيان وسهيل بن عمرو، وتعقب بأن أبا جهل وعتبة قتلا ببدر وإنما ينطبق التفسير على من نزلت الآية المذكورة وهو حي، فيصح في أبي سفيان وسهيل بن عمرو وقد أسلما جميعا. قوله: (ولا من المنافقين إلا أربعة) لم أقف على تسميتهم. قوله: (فقال أعرابي) لم أقف على اسمه. قوله: (إنكم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم) بنصب أصحاب على النداء مع حذف، الأداة أو هو بدل من الضمير في إنكم. قوله: (تخبروننا فلا ندري) كذا وقع، في رواية الإسماعيلي " تخبروننا عن أشياء". قوله: (يبقرون) بموحدة ثم قاف أي ينقبون، قال الخطابي: وأكثر ما يكون النقر في الخشب والصخور يعني بالنون. قوله: (أعلاقنا) بالعين المهملة والقاف أي نفائس أموالنا. وقال ابن التين: وجدته في بعض الروايات مضبوطا بالغين المعجمة ولا وجه له انتهى. ووجد في نسخة الدمياطي بخطه بالغين المعجمة أيضا، ذكره شيخنا ابن الملقن. ويمكن توجيهه بأن الإغلاق جمع غلق بفتحتين وهو الباب الذي يغلق على البيت ويفتح بالمفتاح، ويطلق الغلق على الحديدة التي تجعل في الباب ويعمل فيها القفل، فيكون قوله " ويسرقوا أغلاقنا " إما على الحقيقة فإنه إذا تمكن من سرقة الغلق توصل إلى فتح الباب، أو فيه مجاز الحذف أي يسرقون ما في أغلاقنا. قوله: (أولئك الفساق) أي الذين يبقرون ويسرقون، لا الكفار ولا المنافقون. قوله: (أحدهم شيخ كبير) لم أقف على تسميته. قوله: (لو شرب الماء البارد لما وجد برده) أي لذهاب شهوته وفساد معدته، فلا يفرق بين الألوان ولا الطموع. *3* وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ الشرح: قوله: (باب قوله: الحديث: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَكُونُ كَنْزُ أَحَدِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ الشرح: قوله: (يكون كنز أحدكم يوم القيامة شجاعا أقرع) كذا أورده مختصرا، وهو عند أبي نعيم في " المستخرج " من وجه آخر عن أبي اليمان وزاد " يفر منه صاحبه ويطلبه، أنا كنزك، فلا يزال به حتى يلقمه إصبعه " وكذا أخرجه النسائي من طريق علي بن عياش عن شعيب، وقد تقدم من وجه آخر عن أبي هريرة في كتاب الزكاة مع شرح الحديث. الحديث: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ مَرَرْتُ عَلَى أَبِي ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ فَقُلْتُ مَا أَنْزَلَكَ بِهَذِهِ الْأَرْضِ قَالَ كُنَّا بِالشَّأْمِ فَقَرَأْتُ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ قَالَ مُعَاوِيَةُ مَا هَذِهِ فِينَا مَا هَذِهِ إِلَّا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ قَالَ قُلْتُ إِنَّهَا لَفِينَا وَفِيهِمْ الشرح: حديث أبي ذر في قصته مع معاوية في تأويل قوله تعالى *3* فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُنْزَلَ الزَّكَاةُ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللَّهُ طُهْرًا لِلْأَمْوَالِ الشرح: قوله باب قوله عز وجل *3* يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ هُوَ الْقَائِمُ الشرح: قوله: (باب قوله: قوله: قوله: قوله: الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ الشرح: قوله: (إن الزمان قد استدار كهيئته) تقدم الكلام عليه في أوائل بدء الخلق، وأن المراد بالزمان السنة. وقوله "كهيئته " أي استدار استدارة مثل حالته. ولفظ " الزمان " يطلق على قليل الوقت وكثيره، والمراد باستدارته وقوع تاسع ذي الحجة في الوقت الذي حلت فيه الشمس برج الحمل حيث يستوي الليل والنهار. ووقع في حديث ابن عمر عند ابن مردويه " أن الزمان قد استدار فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض". قوله: (السنة اثنا عشر شهرا) أي السنة العربية الهلالية، وذكر الطبري في سبب ذلك من طريق حصين ابن عبد الرحمن عن أبي مالك: كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا ومن وجه آخر كانوا يجعلون السنة اثنى عشر شهرا وخمسة وعشرين يوما، فتدور الأيام والشهور كذلك. قوله: (ثلاث متواليات) هو تفسير الأربعة الحرم، قال ابن التين: الصواب ثلاثة متوالية، يعني لأن المميز الشهر، قال: ولعله أعاده على المعنى أي ثلاث مدد متواليات، انتهى. أو باعتبار العدة مع أن الذي لا يذكر التمييز معه يجوز فيه التذكير والتأنيث، وذكرها من سنتين لمصلحة التوالي بين الثلاثة، وإلا فلو بدأ بالمحرم لفات مقصود التوالي. وفيه إشارة إلى إبطال ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من تأخير بعض الأشهر الحرم، فقيل: كانوا يجعلون المحرم صفرا ويجعلون صفرا المحرم لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهر لا يتعاطون فيها القتال، فلذلك قال " متواليات " وكانوا في الجاهلية على أنحاء: منهم من يسمى المحرم صفرا فيحل فيه القتال، ويحرم القتال في صفر ويسميه المحرم. ومنهم من كان يجعل ذلك سنة هكذا وسنة هكذا، ومنهم من يجعله سنتين هكذا وسنتين هكذا، ومنهم من يؤخر صفرا إلى ربيع الأول وربيعا إلى ما يليه وهكذا إلى أن يصير شوال ذا القعدة وذو القعدة ذا الحجة، ثم يعود العدد على الأصل. قوله: (ورجب مضر) أضافه إليهم لأنهم كانوا متمسكين بتعظيمه، بخلاف غيرهم فيقال إن ربيعة كانوا يجعلون بدله رمضان، وكان من العرب من يجعل في رجب وشعبان ما ذكر في المحرم وصفر فيحلون رجبا ويحرمون شعبان، ووصفه بكونه بين جمادى وشعبان تأكيدا، وكان أهل الجاهلية قد نسئوا بعض الأشهر الحرم أي أخروها، فيحلون شهرا حراما ويحرمون مكانه آخر بدله حتى رفض تخصيص الأربعة بالتحريم أحيانا، ووقع تحريم أربعة مطلقة من السنة، فمعنى الحديث أن الأشهر رجعت إلى ما كانت عليه وبطل النسيء. وقال الخطابي: كانوا يخالفون بين أشهر السنة بالتحليل والتحريم والتقديم والتأخير لأسباب تعرض لهم، منها استعجال الحرب، فيستحلون الشهر الحرام ثم يحرمون بدله شهرا غيره فتتحول في ذلك شهور السنة وتتبدل، فإذا أتى على ذلك عدة من السنين استدار الزمان وعاد الأمر إلى أصله، فاتفق وقوع حجة النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك. (تنبيه) : أبدى بعضهم لما استقر عليه الحال من ترتيب هذه الأشهر الحرم مناسبة لطيفة حاصلها أن للأشهر الحرم مزية على ما عداها فناسب أن يبدأ بها العام وأن تتوسطه وأن تختم به، وإنما كان الختم بشهرين لوقوع الحج ختام الأركان الأربع لأنها تشتمل على عمل مال محض وهو الزكاة، وعمل بدن محض، وذلك تارة يكون بالجوارح وهو الصلاة وتارة بالقلب وهو الصوم، لأنه كف عن المفطرات. وتارة عمل مركب من مال وبدن وهو الحج. فلما جمعهما ناسب أن يكون له ضعف ما لواحد منهما، فكان له من الأربعة الحرم شهران، والله أعلم. *3* إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا أَيْ نَاصِرُنَا السَّكِينَةُ فَعِيلَةٌ مِنْ السُّكُونِ الشرح: قوله: (باب قوله: قوله: (السكينة فعيلة من السكون) هو قول أبي عبيدة أيضا. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا حَبَّانُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ حَدَّثَنَا أَنَسٌ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَارِ فَرَأَيْتُ آثَارَ الْمُشْرِكِينَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ رَآنَا قَالَ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا الشرح: قوله: (حدثنا عبد الله بن محمد) هو الجعفي وهو المذكور في جميع أحاديث الباب إلا الطريق الأخير، وفي شيوخه عبد الله بن محمد جماعة منهم أبو بكر بن أبي شيبة، ولكن حيث يطلق ذلك فالمراد به الجعفي لاختصاصه به وإكثاره عنه. وحبان بفتح أوله ثم الموحدة الثقيلة هو ابن هلال، وقد تقدم الحديث مع شرحه في مناقب أبي بكر. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ حِينَ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ قُلْتُ أَبُوهُ الزُّبَيْرُ وَأُمُّهُ أَسْمَاءُ وَخَالَتُهُ عَائِشَةُ وَجَدُّهُ أَبُو بَكْرٍ وَجَدَّتُهُ صَفِيَّةُ فَقُلْتُ لِسُفْيَانَ إِسْنَادُهُ فَقَالَ حَدَّثَنَا فَشَغَلَهُ إِنْسَانٌ وَلَمْ يَقُلْ ابْنُ جُرَيْجٍ الشرح: قوله: (حين وقع بينه وبين ابن الزبير) أي بسبب البيعة، وذلك أن ابن الزبير حين مات معاوية امتنع من البيعة ليزيد بن معاوية وأصر على ذلك حتى أغرى يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة بالمدينة فكانت وقعة الحرة، ثم توجه الجيش إلى مكة فمات أميرهم مسلم بن عقبة وقام بأمر الجيش الشامي حصين بن نمير فحصر ابن الزبير بمكة، ورموا الكعبة بالمنجنيق حتى احترقت. ففجأهم الخبر بموت يزيد بن معاوية فرجعوا إلى الشام، وقام ابن الزبير في بناء الكعبة، ثم دعا إلى نفسه فبويع بالخلافة وأطاعه أهل الحجاز ومصر والعراق وخراسان وكثير من أهل الشام، ثم غلب مروان على الشام وقتل الضحاك بن قيس الأمير من قبل ابن الزبير بمرج راهط، ومضى مروان إلى مصر وغلب عليها، وذلك كله في سنة أربع وستين، وكمل بناء الكعبة في سنة خمس، ثم مات مروان في سنة خمس وستين وقام عبد الملك ابنه مقامه، وغلب المختار بن أبي عبيد على الكوفة ففر منه من كان من قبل ابن الزبير، وكان محمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية وعبد الله بن عباس مقيمين بمكة منذ قتل الحسين، فدعاهما ابن الزبير إلى البيعة له فامتنعا وقالا: لا نبايع حتى يجتمع الناس على خليفة، وتبعهما جماعة على ذلك، فشدد عليهم ابن الزبير وحصرهم، فبلغ المختار فجهز إليهم جيشا فأخرجوهما واستأذنوهما في قتال ابن الزبير فامتنعا، وخرجا إلى الطائف فأقاما بها حتى مات ابن عباس سنة ثمان وستين، ورحل ابن الحنفية بعده إلى جهة رضوى جبل بينبع فأقام هناك، ثم أراد دخول الشام فتوجه إلى نحو أيلة فمات في آخر سنة ثلاث أو أول سنة أربع وسبعين، وذلك عقب قتل ابن الزبير على الصحيح، وقيل عاش إلى سنة ثمانين أو بعد ذلك، وعند الواقدي أنه مات بالمدينة سنة إحدى وثمانين، وزعمت الكيسانية أنه حي لم يمت وأنه المهدي وأنه لا يموت حتى يملك الأرض، في خرافات لهم كثيرة ليس هذا موضعها. وإنما لخصت ما ذكرته من طبقات ابن سعد وتاريخ الطبري وغيره لبيان المراد بقول ابن أبي مليكة " حين وقع بينه وبين ابن الزبير"، ولقوله في الطريق الأخرى " فغدوت على ابن عباس فقلت: أتريد أن تقاتل ابن الزبير؟ وقول ابن عباس: قال الناس بايع لابن الزبير، فقلت: وأين بهذا الأمر عنه " أي أنه مستحق لذلك لما له من المناقب المذكورة، ولكن امتنع ابن عباس من المبايعة له لما ذكرناه. وروى الفاكهي من طريق سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال " كان ابن عباس وابن الحنفية بالمدينة ثم سكنا مكة، وطلب منهما ابن الزبير البيعة فأبيا حتى يجتمع الناس على رجل، فضيق عليهما فبعث رسولا إلى العراق فخرج إليهما جيش في أربعة آلاف فوجدوهما محصورين، وقد أحضر الحطب فجعل على الباب يخوفهما بذلك، فأخرجوهما إلى الطائف " وذكر ابن سعد أن هذه القصة وقعت بين ابن الزبير وابن عباس في سنة ست وستين. قوله: (وأمه أسماء) أي بنت أبي بكر الصديق، وقوله "وجدته صفية " أي بنت عبد المطلب، وقوله في الرواية الثانية " وأما عمته فزوج النبي صلى الله عليه وسلم يريد خديجة أطلق عليها عمته تجوزا وإنما هي عمة أبيه لأنها خديجة بنت خويلد أي ابن أسد، والزبير هو ابن العوام بن خويلد بن أسد، وكذا تجوز في الرواية الثالثة حيث قال " ابن أبي بكر " وإنما هو ابن بنته، وحيث قال " ابن أخي خديجة " وإنما هو ابن ابن أخيها العوام. قوله: (فقلت لسفيان إسناده) بالنصب أي اذكر إسناده، أو بالرفع أي ما إسناده. فقال (حدثنا فشغله إنسان ولم يقل ابن جريج) ظاهر هذا أنه صرح له بالتحديث لكن لما يقل ابن جريج احتمل أن يكون أراد أن يدخل بينهما واسطة، واحتمل عدم الواسطة، ولذلك استظهر البخاري بإخراج الحديث من وجه آخر عن ابن جريج، ثم من وجه آخر عن شيخه. الحديث: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ وَكَانَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ فَغَدَوْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ أَتُرِيدُ أَنْ تُقَاتِلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ فَتُحِلَّ حَرَمَ اللَّهِ فَقَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَبَنِي أُمَيَّةَ مُحِلِّينَ وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أُحِلُّهُ أَبَدًا قَالَ قَالَ النَّاسُ بَايِعْ لِابْنِ الزُّبَيْرِ فَقُلْتُ وَأَيْنَ بِهَذَا الْأَمْرِ عَنْهُ أَمَّا أَبُوهُ فَحَوَارِيُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ الزُّبَيْرَ وَأَمَّا جَدُّهُ فَصَاحِبُ الْغَارِ يُرِيدُ أَبَا بَكْرٍ وَأُمُّهُ فَذَاتُ النِّطَاقِ يُرِيدُ أَسْمَاءَ وَأَمَّا خَالَتُهُ فَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ يُرِيدُ عَائِشَةَ وَأَمَّا عَمَّتُهُ فَزَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ خَدِيجَةَ وَأَمَّا عَمَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَدَّتُهُ يُرِيدُ صَفِيَّةَ ثُمَّ عَفِيفٌ فِي الْإِسْلَامِ قَارِئٌ لِلْقُرْآنِ وَاللَّهِ إِنْ وَصَلُونِي وَصَلُونِي مِنْ قَرِيبٍ وَإِنْ رَبُّونِي رَبُّونِي أَكْفَاءٌ كِرَامٌ فَآثَرَ التُّوَيْتَاتِ وَالْأُسَامَاتِ وَالْحُمَيْدَاتِ يُرِيدُ أَبْطُنًا مِنْ بَنِي أَسَدٍ بَنِي تُوَيْتٍ وَبَنِي أُسَامَةَ وَبَنِي أَسَدٍ إِنَّ ابْنَ أَبِي الْعَاصِ بَرَزَ يَمْشِي الْقُدَمِيَّةَ يَعْنِي عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ وَإِنَّهُ لَوَّى ذَنَبَهُ يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ الشرح: قوله في الطريق الثانية (حجاج) هو ابن محمد المصيصي. قوله: (قال ابن أبي مليكة وكان بينهما شيء) كذا أعاد الضمير بالتثنية على غير مذكور اختصارا ومراده ابن عباس وابن الزبير، وهو صريح في الرواية الأولى حيث قال قال ابن عباس حين وقع بينه وبين ابن الزبير. قوله: (فتحل ما حرم الله) أي من القتال في الحرم. قوله: (كتب) أي قدر. قوله: (محلين) أي أنهم كانوا يبيحون القتال في الحرم، وإنما نسب ابن الزبير إلى ذلك وإن كان بنو أمية هم الذين ابتدءوه بالقتال وحصروه وإنما بدأ منه أولا دفعهم عن نفسه لأنه بعد أن ردهم الله عنه حصر بني هاشم ليبايعوه، فشرع فيما يؤذن بإباحته القتال في الحرم، وكان بعض الناس يسمى ابن الزبير " المحل " لذلك، قال الشاعر يتغزل في أخته رملة: ألا من لقلب معنى غزل بحب المحلة أخت المحل وقوله لا أحله أبدا أي لا أبيح القتال فيه، وهذا مذهب ابن عباس أنه لا يقاتل في الحرم ولو قوتل فيه. قوله: (قال قال الناس) القائل هو ابن عباس وناقل ذلك عنه ابن أبي مليكة فهو متصل، والمراد بالناس من كان من جهة ابن الزبير وقوله " بايع " بصيغة الأمر وقوله " وأين بهذا الأمر " أي الخلافة أي ليست بعيدة عنه لما له من الشرف بأسلافه الذين ذكرهم ثم صفته التي أشار إليها بقوله عفيف في الإسلام قارئ للقرآن. وفي رواية ابن قتيبة من طريق محمد بن الحكم عن عوانة ومن طريق يحيى بن سعد عن الأعمش قال " قال ابن عباس لما قيل له بايع لابن الزبير: أين المذهب عن ابن الزبير وسيأتي الكلام على قوله في الرواية الثانية ابن أبي بكر في تفسير الحجرات. قوله: (والله إن وصلوني وصلوني من قريب) أي بسبب القرابة. قوله: (وإن ربوني) بفتح الراء وضم الموحدة الثقيلة من التربية. قوله: (ربوني) في رواية الكشميهني ربني بالإفراد، وقوله "أكفاء " أي أمثال واحدها كفء، وقوله "كرام " أي في أحسابهم، وظاهر هذا أن مراد ابن عباس بالمذكورين بنو أسد رهط ابن الزبير وكلام أبي مخنف الإخباري يدل على أنه أراد بني أمية، فإنه ذكر من طريق أخرى أن ابن عباس لما حضرته الوفاة بالطائف جمع بنيه فقال " يا بني إن ابن الزبير لما خرج بمكة شددت أزره ودعوت الناس إلى بيعته وتركت بني عمنا من بني أمية الذين إن قبلونا قبلونا أكفاء، وإن ربونا ربونا كراما. فلما أصاب ما أصاب جفاني " ويؤيد هذا ما في آخر الرواية الثالثة حيث قال " وإن كان لا بد لأن يربني بنو عمي أحب إلي من أن يربني غيرهم " فإن بني عمه هم بنو أمية ابن عبد شمس بن عبد مناف لأنهم من بني عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف فعبد المطلب جد عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم أمية جد مروان بن الحكم بن أبي العاص، وكان هاشم وعبد شمس شقيقين، قال الشاعر: عبد شمس كان يتلو هاشما وهما بعد لأم ولأب وأصرح من ذلك ما في خبر أبي مخنف فإن في آخره " أن ابن عباس قال لبنيه: فإذا دفنتموني فالحقوا ببني عمكم بني أمية " ثم رأيت بيان ذلك واضحا فيما أخرجه ابن أبي خيثمة في تاريخه في الحديث المذكور فإنه قال بعد قوله ثم عفيف في الإسلام قارئ للقرآن " وتركت بني عمي إن وصلوني وصلوني عن قريب " أي أذعنت له وتركت بني عمي فآثر على غيري، وبهذا يستقيم الكلام، وأصرح من ذلك في رواية ابن قتيبة المذكورة أن ابن عباس قال لابنه علي " الحق بابن عمك، فإن أنفك منك وإن كان أجدع، فلحق علي بعبد الملك فكان آثر الناس عنده". قوله: (فآثر علي) بصيغة الفعل الماضي من الأثرة، ووقع في رواية الكشميهني فأين بتحتانية ساكنة ثم نون وهو تصحيف. وفي رواية ابن قتيبة المذكورة " فشددت على عضده فآثر علي فلم أرض بالهوان". قوله: (التويتات والأسامات والحميدات يريد أبطنا من بني أسد) أما التويتات فنسبة إلى بني تويت بن أسد ويقال تويت بن الحارث بن عبد العزى بن قصي، وأما الأسامات فنسبة إلى بني أسامة بن أسد بن عبد العزي، وأما الحميدات فنسبة إلى بني حميد بن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى، قال الفاكهي: حدثنا الزبير بن بكار عن محمد بن الضحاك في آخرين أن زهير بن الحارث دفن في الحجر. قال وحدثنا الزبير قال: كان حميد بن زهير أول من بنى بمكة بيتا مربعا، وكانت قريش تكره ذلك لمضاهاة الكعبة، فلما بنى حميد بيته قال قائلهم: اليوم يبني لحميد بيته إما حياته وإما موته فلما لم يصبه شيء تابعوه على ذلك. وتجتمع هذه الأبطن مع خويلد بن أسد جد ابن الزبير، قال الأزرقي: كان ابن الزبير إذا دعا الناس في الإذن بدأ ببني أسد على بني هاشم وبني عبد شمس وغيرهم، فهذا معنى قول ابن عباس " فآثر على التويتات إلخ " قال: فلما ولي عبد الملك بن مروان قدم بني عبد شمس ثم بني هاشم وبني المطلب وبني نوفل ثم أعطى بني الحارث بن فهر قبل بني أسد وقال: لأقدمن عليهم أبعد بطن من قريش، فكان يصنع ذلك مبالغة منه في مخالفة ابن الزبير. وجمع ابن عباس البطون المذكورة جمع القلة تحقيرا لهم. قوله: (يريد أبطنا من بني أسد بن تويت) كذا وقع وصوابه يريد أبطنا من بني تويت بن أسد إلخ نبه على ذلك عياض. قلت: وكذا وقع في مستخرج أبي نعيم على الصواب. وفي رواية أبي مخنف المذكورة أفخاذا صغارا من بني أسد بن عبد العزى، وهذا صواب. قوله: (أن ابن أبي العاص) يعني عبد المطلب بن مروان بن الحكم بن أبي العاص. قوله: (برز) أي ظهر. قوله: (يمشي القدمية) يضم القاف وفتح الدال وقد تضم أيضا وقد تسكن وكسر الميم وتشديد التحتانية، قال الخطابي وغيره: معناها التبختر، وهو مثل يريد أنه برز يطلب معالي الأمور. قال ابن الأثير: الذي في البخاري " القدمية " وهي التقدمة في الشرف والفضل، والذي في كتب الغريب " اليقدمية " بزيادة تحتانية في أوله ومعناها التقدمة في الشرف، وقيل التقدم بالهمة والفعل. قلت: وفي رواية أبي مخنف مثل ما وقع في الصحيح. قوله: (وإنه لوى ذنبه) يعني ابن الزبير، لوى بتشديد الواو وبتخفيفها أي ثناه، وكني بذلك عن تأخره وتخلفه عن معالي الأمور، وقيل كني به عن الجبن وإيثار الدعة كما تفعل السباع إذا أرادت النوم، والأول أولى، وفي مثله قال الشاعر: مشى ابن الزبير القهقرى وتقدمت أمية حتى أحرزوا القصبات وقال الداودي: المعنى أنه وقف فلم يتقدم ولم يتأخر، ولا وضع مواضعها فأدنى الناصح وأقصى الكاشح. وقال ابن التين، معنى " لوى ذنبه " لم يتم له ما أراده. وفي رواية أبي مخنف المذكورة " وإن ابن الزبير يمشي القهقرى " وهو المناسب لقوله في عبد الملك، يمشي القدمية، وكان الأمر كما قال ابن عباس، فإن عبد الملك لم يزل في تقدم من أمره إلى أن استنقذ العراق من ابن الزبير وقتل أخاه مصعبا، ثم جهز العساكر إلى ابن الزبير بمكة فكان من الأمر ما كان، ولم يزل أمر ابن الزبير في تأخر إلى أن قتل رحمه الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ دَخَلْنَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ أَلَا تَعْجَبُونَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ قَامَ فِي أَمْرِهِ هَذَا فَقُلْتُ لَأُحَاسِبَنَّ نَفْسِي لَهُ مَا حَاسَبْتُهَا لِأَبِي بَكْرٍ وَلَا لِعُمَرَ وَلَهُمَا كَانَا أَوْلَى بِكُلِّ خَيْرٍ مِنْهُ وَقُلْتُ ابْنُ عَمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ أَبِي بَكْرٍ وَابْنُ أَخِي خَدِيجَةَ وَابْنُ أُخْتِ عَائِشَةَ فَإِذَا هُوَ يَتَعَلَّى عَنِّي وَلَا يُرِيدُ ذَلِكَ فَقُلْتُ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنِّي أَعْرِضُ هَذَا مِنْ نَفْسِي فَيَدَعُهُ وَمَا أُرَاهُ يُرِيدُ خَيْرًا وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ لَأَنْ يَرُبَّنِي بَنُو عَمِّي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَرُبَّنِي غَيْرُهُمْ الشرح: قوله في الرواية الثالثة (عن عمر بن سعيد) أي ابن أبي حسين المكي، وقوله "لأحاسبن نفسي " أي لأناقشنها في معونته ونصحه، قاله الخطابي. وقال الداودي: معناه لأذكرن من مناقبه ما لم أذكر من مناقبهما، وإنما صنع ابن عباس ذلك لاشتراك الناس في معرفة مناقب أبي بكر وعمر، بخلاف ابن الزبير فما كانت مناقبه في الشهرة كمناقبهما فأظهر ذلك ابن عباس وبينه للناس إنصافا منه له، فلما لم ينصفه هو رجع عنه. قوله: (فإذا هو يتعلى عني) أي يترفع علي متنحيا عني. قوله: (ولا يريد ذلك) أي لا يريد أن أكون من خاصته. وقوله "ما كنت أظن أني أغرض هذا من نفسي " أي أبدؤه بالخضوع له ولا يرضى مني بذلك، وقوله "وما أراه يريد خيرا " أي لا يريد أن يصنع بي خيرا. وفي رواية الكشميهني " وإنما أراه يريد خيرا " وهو تصحيف، ويوضحه ما تقدم. وقوله "لأن يربني " أي يكون علي ربا أي أميرا، أو ربه بمعنى رباه وقام بأمره وملك تدبيره، قال التيمي: معناه لأن أكون في طاعة بني أمية أحب إلي من أن أكون في طاعة بني أسد، لأن بني أمية أقرب إلى بني هاشم من بني أسد كما تقدم، والله أعلم *3* الشرح: قوله باب قوله: الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بُعِثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ فَقَسَمَهُ بَيْنَ أَرْبَعَةٍ وَقَالَ أَتَأَلَّفُهُمْ فَقَالَ رَجُلٌ مَا عَدَلْتَ فَقَالَ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ الشرح: حديث سعيد إلى " بعث النبي صلى الله عليه وسلم بشيء فقسمه بين أربعة وقال أتألفهم، فقال رجل ما عدلت " أورده مختصرا جدا وأبهم الباعث والمبعوث وتسمية الأربعة والرجل القائل، وقد تقدم بيان جميع ذلك في غزوة حنين من المغازي. *3* يَلْمِزُونَ يَعِيبُونَ وَ جُهْدَهُمْ وَجَهْدَهُمْ طَاقَتَهُمْ الشرح: قوله باب قوله: قوله: (جهدهم وجهدهم طاقتهم) قال أبو عبيدة في قوله: وقال الفراء: الجهد بالضم لغة أهل الحجاز، ولغة غيرهم الفتح، وهذا هو المعتمد عند أهل العلم باللسان قاله الطبري، وحكي عن بعضهم أن معناهما مختلف: قيل بالفتح المشقة وبالضم الطاقة، وقيل غير ذلك. الحديث: حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَبُو مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ لَمَّا أُمِرْنَا بِالصَّدَقَةِ كُنَّا نَتَحَامَلُ فَجَاءَ أَبُو عَقِيلٍ بِنِصْفِ صَاعٍ وَجَاءَ إِنْسَانٌ بِأَكْثَرَ مِنْهُ فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَدَقَةِ هَذَا وَمَا فَعَلَ هَذَا الْآخَرُ إِلَّا رِئَاءً فَنَزَلَتْ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ الْآيَةَ الشرح: قوله: (عن سليمان) هو الأعمش، وأبو مسعود هو عقبة بن عمرو البدري. قوله: (لما أمرنا بالصدقة) تقدم في الزكاة بلفظ " لما نزلت آية الصدقة " وقد تقدم بيانه هناك. قوله: (كنا نتحامل) أي يحمل بعضنا لبعض بالأجرة، وقد تقدم في الزكاة من وجه آخر عن شعبة بلفظ " نحامل " أي نؤاجر أنفسنا في الحمل، وتقدم بيان الاختلاف في ضبطه. وقال صاحب " المحكم " تحامل في الأمر أي تكلفه على مشقة ومنه تحامل على فلان أي كلفه ما لا يطيق. قوله: (فجاء أبو عقيل بنصف صاع) اسم أبي عقيل هذا وهو بفتح أوله حبحاب بمهملتين بينهما موحدة ساكنة وآخره مثلها، ذكره عبد بن حميد والطبري وابن منده من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال في قوله تعالى فقال المنافقون: أن كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبي عقيل، فنزلت " وهذا هو مرسل، ووصله الطبراني والبارودي والطبري من طريق موسى بن عبيدة عن خالد بن يسار عن ابن أبي عقيل عن أبيه بهذا، ولكن لم يسموه. وذكر السهيلي أنه رآه بخط بعض الحفاظ مضبوطا بجيمين، وروى الطبراني في " الأوسط " وابن منده من طريق سعيد بن عثمان البلوي عن جدته بنت عدي أن أمها عميرة بنت سهل بن رافع صاحب الصاع الذي لمزه المنافقون خرج بزكاته صاع تمر وبابنته عميرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدعا لهما بالبركة، وكذا ذكر ابن الكلبي أن سهل بن رافع هو صاحب الصاع الذي لمزه المنافقون، وروى عبد بن حميد من طريق عكرمة قال في قوله تعالى وفي الصحابة أبو عقيل بن عبد الله بن ثعلبة البلوي بدري لم يسمه موسى بن عقبة ولا ابن إسحاق وسماه الواقدي عبد الرحمن قال: واستشهد باليمامة، وكلام الطبري يدل على أنه هو صاحب الصاع عنده وتبعه بعض المتأخرين، والأول أولى. وقيل هو عبد الرحمن بن سمحان وقد ثبت في حديث كعب بن مالك في قصة توبته قال " وجاء رجل يزول به السراب فقال النبي صلى الله عليه وسلم كن أبا خيثمة فإذا هو أبو خيثمة " وهو صاحب الصاع الذي لمزه المنافقون، واسم أبي خيثمة هذا عبد الله بن خيثمة من بني سالم من الأنصار، فهذا يدل على تعدد من جاء بالصاع. ويؤيد ذلك أن أكثر الروايات فيها أنه جاء بصاع، وكذا وقع في الزكاة " فجاء رجل فتصدق بصاع " وفي حديث الباب " فجاء أبو عقيلة بنصف صاع " وجزم الواقدي بأن الذي جاء بصدقة ماله هو زيد بن أسلم العجلاني، والذي جاء بالصاع هو علية بن زيد المحاربي وسمي من الذين قالوا إن هذا مراء وإن الله غني عن صدقة هذا معتب بن قشير وعبد الله بن نبتل، وأورده الخطيب في " المبهمات " من طريق الواقدي وفيه عبد الرحمن بن نبتل وهو بنون ثم موحدة ثم مثناة ثم لام بوزن جعفر، وسيأتي أيضا ما يدل على تعدد من جاء بأكثر من ذلك. قوله: (وجاء إنسان بأكثر منه) تقدم في الزكاة بلفظ " وجاء رجل بشيء كثير " وروى البزار من طريق عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثا. قال فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال: يا رسول الله عندي أربعة آلاف: ألفين أقرضهما ربي، وألفين أمسكهما لعيالي، فقال: بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت قال وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر " الحديث. قال البزار: لم يسنده إلا طالوت بن عباد عن أبي عوانة عن عمر، قال وحدثناه أبو كامل عن أبي عوانة فلم يذكر أبا هريرة فيه، وكذلك أخرجه عبد بن حميد عن يونس ابن محمد عن أبي عوانة، وأخرجه ابن أبي حاتم والطبري وابن مردويه من طرق أخرى عن أبي عوانة مرسلا، وذكره ابن إسحاق في المغازي بغير إسناد، وأخرجه الطبري من طريق يحيى بن أبي كثير ومن طريق سعيد عن قتادة وابن أبي حاتم من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة والمعنى واحد قال " وحث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة - يعني في غزوة تبوك - فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف فقال: يا رسول الله مالي ثمانية آلاف جئتك بنصفها وأمسكت نصفها، فقال بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت. وتصدق يومئذ عاصم بن عدي بمائة وسق من تمر. وجاء أبو عقيل بصاع من تمر " الحديث. وكذا أخرجه الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس نحوه، ومن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال " جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب " بمعناه. وعند عبد بن حميد وابن أبي حاتم من طريق الربيع بن أنس قال " جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعمائة أوقية من ذهب فقال: إن لي ثمانمائة أوقية من ذهب " الحديث، وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة فقال " ثمانية آلاف دينار " ومثله لابن أبي حاتم من طريق مجاهد، وحكى عياض في " الشفاء " أنه جاء يومئذ بتسعمائة بعير، وهذا اختلاف شديد في القدر الذي أحضره عبد الرحمن بن عوف، وأصح الطرق فيه ثمانية آلاف درهم. وكذا أخرجه ابن أبي حاتم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أو غيره، والله أعلم. ووقع في " معاني الفراء " أن النبي صلى الله عليه وسلم حث الناس على الصدقة فجاء عمر بصدقة، وعثمان بصدقة عظيمة، وبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعني عبد الرحمن بن عوف، ثم جاء أبو عقيل بصاع من تمر، فقال المنافقون: ما أخرج هؤلاء صدقاتهم إلا رياء، وأما أبو عقيل فإنما جاء بصاعه ليذكر بنفسه، فنزلت. ولابن مردويه من طريق أبي سعيد " فجاء عبد الرحمن بن عوف بصدقته، وجاء المطوعون من المؤمنين " الحديث. قوله: (فنزلت الذين يلمزون المطوعين) قراءة الجمهور بتشديد الطاء والواو وأصله المتطوعين فأدغمت التاء. في الطاء، وهم الذين يغزون بغير استعانة برزق من سلطان أي غيره، وقوله: الحديث: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي أُسَامَةَ أَحَدَّثَكُمْ زَائِدَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِالصَّدَقَةِ فَيَحْتَالُ أَحَدُنَا حَتَّى يَجِيءَ بِالْمُدِّ وَإِنَّ لِأَحَدِهِمْ الْيَوْمَ مِائَةَ أَلْفٍ كَأَنَّهُ يُعَرِّضُ بِنَفْسِهِ الشرح: قوله (فيحتال أحدنا حتى يجيء بالمد) يعني فيتصدق به، في رواية الزكاة " فينطلق أحدنا إلى السوق فيحامل " فأفاد بيان المراد بقوله في هذه الرواية فيحتال. قوله: (وإن لأحدهم اليوم مائة ألف) في رواية الزكاة " وإن لبعضهم اليوم لمائة ألف " ومائة بالنصب على أنها اسم إن والخبر لأحدهم أو لبعضهم واليوم ظرف، ولم يذكر مميز المائة ألف فيحتمل أن يريد الدراهم أو الدنانير أو الأمداد. قوله: (كأنه يعرض بنفسه) هو كلام شقيق الراوي عن أبي مسعود، بينه إسحاق ابن راهويه في مسنده، وهو الذي أخرجه البخاري عنه. وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن إسحاق فقال في آخره " وإن لأحدهم اليوم لمائة ألف، قال شقيق: كأنه يعرض بنفسه " وكذا أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر وزاد في آخر الحديث " قال الأعمش: وكان أبو مسعود قد كثر ماله " قال ابن بطال يريد أنهم كانوا في زمن الرسول يتصدقون بما يجدون، وهؤلاء مكثرون ولا يتصدقون، كذا قال وهو بعيد. وقال الزين بن المنير مراده أنهم كانوا يتصدقون مع قلة الشيء ويتكلفون ذلك، ثم وسع الله عليهم فصاروا يتصدقون من يسر ومع عدم خشية عسر. قلت: ويحتمل أن يكون مراده أن الحرص على الصدقة الآن لسهولة مأخذها بالتوسع الذي وسع عليهم أولى من الحرص عليها مع تكلفهم، أو أراد الإشارة إلى ضيق العيش في زمن الرسول وذلك لقلة ما وقع من الفتوح والغنائم في زمانه، وإلى سعة عيشهم بعده لكثرة الفتوح والغنائم. *3* إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ الشرح: قوله: (باب قوله استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) كذا لأبي ذر ورواية غيره مختصرة. الحديث: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ يُكَفِّنُ فِيهِ أَبَاهُ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ رَبُّكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ فَقَالَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً وَسَأَزِيدُهُ عَلَى السَّبْعِينَ قَالَ إِنَّهُ مُنَافِقٌ قَالَ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ الشرح: قوله: (عن عبيد الله) هو ابن عمر. قوله: (لما توفي عبد الله بن أبي) ذكر الواقدي ثم الحاكم في " الإكليل " أنه مات بعد منصرفهم من تبوك وذلك في ذي القعدة سنة تسع، وكانت مدة مرضه عشرين يوما ابتداؤها من ليال بقيت من شوال، قالوا: وكان قد تخلف هو ومن تبعه من غزوة تبوك، وفيهم نزلت قوله: (جاء ابنه عبد الله بن عبد الله) وقع في رواية الطبري من طريق الشعبي: لما اختصر عبد الله جاء ابنه عبد الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله إن أبي قد احتضر فأحب أن تشهده وتصلي عليه، قال: ما اسمك؟ قال: الحباب - يعني بضم المهملة وموحدتين مخففا - قال: بل أنت عبد الله الحباب اسم الشيطان. وكان عبد الله بن عبد الله بن أبي هذا من فضلاء الصحابة وشهد بدرا وما بعدها واستشهد يوم اليمامة في خلافة أبي بكر الصديق، ومن مناقبه أنه بلغه بعض مقالات أبيه فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في قتله، قال: بل أحسن صحبته، أخرجه ابن منده من حديث أبي هريرة بإسناد حسن، وفي الطبراني من طريق عروة بن الزبير عن عبد الله بن عبد الله بن أبي أنه استأذن نحوه، وهذا منقطع لأن عروة لم يدركه وكأنه كان يحمل أمر أبيه على ظاهر الإسلام فلذلك التمس من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحضر عنده ويصلي عليه، ولا سيما وقد ورد ما يدل على أنه فعل ذلك بعهد من أبيه، ويؤيد ذلك ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر والطبري من طريق سعيد كلاهما عن قتادة قال " أرسل عبد الله ابن أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما دخل عليه قال: أهلكك حب يهود، فقال: يا رسول الله إنما أرسلت إليك لتستغفر لي ولم أرسل إليك لتوبخني. ثم سأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه فأجابه " وهذا مرسل مع ثقة رجاله، ويعضده ما أخرجه الطبراني من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال " لما مرض عبد الله بن أبي جاءه النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه فقال: قد فهمت ما تقول، فامنن علي فكفني في قميصك وصل علي ففعل " وكأن عبد الله بن أبي أراد بذلك دفع العار عن ولده وعشيرته بعد موته فأظهر الرغبة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ووقعت إجابته إلى سؤاله بحسب ما ظهر من حاله إلى أن كشف الله الغطاء عن ذلك كما سيأتي، وهذا من أحسن الأجوبة فيما يتعلق بهذه القصة. قوله: (فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم) في حديث ابن عباس عن عمر ثاني حديث الباب " فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم " وفي حديث الترمذي من هذا الوجه " فقام إليه فلما وقف عليه يريد الصلاة عليه وثبت إليه فقلت: يا رسول الله أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا وكذا أعدد عليه قوله " يشير بذلك إلى مثل قوله: قوله: (فقال: يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه) كذا في هذه الرواية إطلاق النهي عن الصلاة، وقد استشكل جدا حتى أقدم بعضهم فقال: هذا وهم من بعض رواته، وعاكسه غيره فزعم أن عمر اطلع على نهي خاص في ذلك. وقال القرطبي: لعل ذلك وقع في خاطر عمر فيكون من قبيل الإلهام، ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله: قلت: الثاني يعني ما قاله القرطبي أقرب من الأول، لأنه لم يتقدم النهي عن الصلاة على المنافقين، بدليل أنه قال في آخر هذا الحديث " قال فأنزل الله ولا تصل على أحد منهم " والذي يظهر أن في رواية الباب تجوزا بينته الرواية التي في الباب بعده من وجه آخر عن عبيد الله بن عمر بلفظ " فقال تصلي عليه وقد نهاك الله أن تستغفر لهم " وروى عبد بن حميد والطبري من طريق الشعبي عن ابن عمر عن عمر قال " أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي على عبد الله بن أبي فأخذت بثوبه فقلت: والله ما أمرك الله بهذا، لقد قال: إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم " ووقع عند ابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس " فقال عمر: أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ قال: أين؟ قال قال: استغفر لهم " الآية، وهذا مثل رواية الباب، فكأن عمر قد فهم من الآية المذكورة ما هو الأكثر الأغلب من لسان العرب من أن " أو " ليست للتخيير، بل للتسوية في عدم الوصف المذكور أي أن الاستغفار لهم وعدم الاستغفار سواء، وهو كقوله تعالى هذا تقرير ما صدر عن عمر مع ما عرف من شدة صلابته في الدين وكثرة بغضه للكفار والمنافقين، وهو القائل في حق حاطب بن أبي بلتعة مع ما كان له من الفضل كشهوده بدرا وغير ذلك لكونه كاتب قريشا قبل الفتح " دعني يا رسول الله أضرب عنقه فقد نافق " فلذلك أقدم على كلامه للنبي صلى الله عليه وسلم بما قال، ولم يلتفت إلى احتمال إجراء الكلام على ظاهره لما غلب عليه من الصلابة المذكورة. قال الزبير بن المنير: وإنما قال ذلك عمر حرصا على النبي صلى الله عليه وسلم ومشورة لا إلزاما، وله عوائد بذلك، ولا يبعد أن يكون النبي كان أذن له في مثل ذلك فلا يستلزم ما وقع من عمر أنه اجتهد مع وجود النص كما تمسك به قوم في جواز ذلك، وإنما أشار بالذي ظهر له فقط، ولهذا احتمل منه النبي صلى الله عليه وسلم أخذه بثوبه ومخاطبته له في مثل ذلك المقام، حتى التفت إليه متبسما كما في حديث ابن عباس بذلك في هذا الباب. قوله: (إنما خيرني الله فقال استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة، وسأزيده على السبعين) في حديث ابن عباس عن عمر من الزيادة " فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أخر عني يا عمر، فلما أكثرت عليه قال: إني خيرت فاخترت " أي خيرت بين الاستغفار وعدمه، وقد بين ذلك حديث ابن عمر حيث ذكر الآية المذكورة. وقوله في حديث ابن عباس عن عمر " لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها " وحديث ابن عمر جازم بقصة الزيادة، وآكد منه ما روى عبد بن حميد من طريق قتادة قال " لما نزلت وقد خفيت هذه اللفظة على من خرج أحاديث المختصر والبيضاوي واقتصروا على ما وقع في حديثي الباب، ودل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم أطال في حال الصلاة عليه من الاستغفار له، وقد ورد ما يدل على ذلك، فذكر الواقدي أن مجمع بن جارية قال " ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطال على جنازة قط ما أطال على جنازة عبد الله بن أبي من الوقوف " وروى الطبري من طريق مغيرة عن الشعبي قال " قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله ووجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم فهم أن ما زاد على السبعين بخلاف السبعين فقال " سأزيد على السبعين"، وأجاب من أنكر القول بالمفهوم بما وقع في بقية القصة، وليس ذلك بدافع للحجة، لأنه لو لم يقم الدليل على أن المقصود بالسبعين المبالغة لكان الاستدلال بالمفهوم باقيا. قوله: (قال إنه منافق فصلى عليه) أما جزم عمر بأنه منافق فجرى على ما كان يطلع عليه من أحواله: وإنما لم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وصلى عليه إجراء له على ظاهر حكم الإسلام كما تقدم تقريره، واستصحابا لظاهر الحكم، ولما فيه من إكرام ولده الذي تحققت صلاحيته، ومصلحة الاستئلاف لقومه ودفع المفسدة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر يصبر على أذى المشركين ويعفو ويصفح، ثم أمر بقتال المشركين فاستمر صفحه وعفوه عما يظهر الإسلام ولو كان باطنه على خلاف ذلك لمصلحة الاستئلاف وعدم التنفير عنه، ولذلك قال " لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " فلما حصل الفتح ودخل المشركون في الإسلام وقل أهل الكفر وذلوا أمر بمجاهرة المنافقين وحملهم على حكم مر الحق، ولا سيما وقد كان ذلك قبل نزول النهي الصريح عن الصلاة على المنافقين وغير ذلك مما أمر فيه بمجاهرتهم، وبهذا التقرير يندفع الإشكال عما وقع في هذه القصة بحمد الله تعالى. قال الخطابي: إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن أبي ما فعل لكمال شفقته على من تعلق بطرف من الدين، ولتطييب قلب ولده عبد الله الرجل الصالح، ولتألف قومه من الخزرج لرياسته فيهم، فلو لم يجب سؤال ابنه وترك الصلاة عليه قبل ورود النهي الصريح لكان سبة على ابنه وعارا على قومه، فاستعمل أحسن الأمرين في السياسة إلى أن نهى فانتهى. وتبعه ابن بطال وعبر بقوله: ورجا أن يكون معتقدا لبعض ما كان يظهر في الإسلام. وتعقبه وابن المنير بأن الإيمان لا يتبعض. وهو كما قال، لكن مراد ابن بطال أن إيمانه كان ضعيفا. قلت: وقد مال بعض أهل الحديث إلى تصحيح إسلام عبد الله بن أبي لكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه، وذهل عن الوارد من الآيات والأحاديث المصرحة في حقه بما ينافي ذلك، ولم يقف على جواب شاف في ذلك، فأقدم على الدعوى المذكورة. وهو محجوج بإجماع من قبله على نقيض ما قال، وإطباقهم على ترك ذكره في كتب الصحابة مع شهرته وذكر من هو دونه في الشرف والشهرة بأضعاف مضاعفة. وقد أخرج الطبري من طريق سعيد عن قتادة في هذه القصة قال: فأنزل الله تعالى قوله: (فأنزل الله تعالى: ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره) زاد عن مسدد في حديثه عن يحيى القطان عن عبيد الله بن عمر في آخره " فترك الصلاة عليهم " أخرجه ابن أبي حاتم عن أبيه عن مسدد وحماد بن زاذان عن يحيى، وقد أخرجه البخاري في الجنائز عن مسدد بدون هذه الزيادة، وفي حديث ابن عباس " فصلى عليه ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت " زاد ابن إسحاق في المغازي قال حدثني الزهري بسنده في ثاني حديثي الباب قال " فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق بعده حتى قبضه الله " ومن هذا الوجه أخرجه ابن أبي حاتم، وأخرجه الطبري من وجه آخر عن ابن إسحاق فزاد فيه " ولا قام على قبره " وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال " لما نزلت الحديث: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ و قَالَ غَيْرُهُ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ دُعِيَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَبْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا قَالَ أُعَدِّدُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرْ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا قَالَ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمْ يَمْكُثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَتَانِ مِنْ بَرَاءَةَ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا إِلَى قَوْلِهِ وَهُمْ فَاسِقُونَ قَالَ فَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ الشرح: قوله: (حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل. وقال غيره حدثني الليث حدثني عقيل) كذا وقع هنا، والغير المذكور هو أبو صالح كاتب الليث واسمه عبد الله بن صالح أخرجه الطبري عن المثنى بن معاذ عنه عن الليث قال حدثني عقيل. قوله: (لما مات عبد الله بن أبي بن سلول) بفتح المهملة وضم اللام وسكون الواو بعدها لام هو اسم امرأة، وهي والدة عبد الله المذكور وهي خزاعية، وأما هو فمن الخزرج أحد قبيلتي الأنصار، وابن سلول يقرأ بالرفع لأنه صفة عبد الله لا صفة أبيه. قوله: (فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أخر عني) أي كلامك، واستشكل الداودي تبسمه صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة مع ما ثبت أن ضحكه صلى الله عليه وسلم كان تبسما ولم يكن عند شهود الجنائز يستعمل ذلك، وجوابه أنه عبر عن طلاقة وجهه بذلك تأنيسا لعمر وتطبيقا لقلبه كالمعتذر عن ترك قبول كلامه ومشورته. قوله: (إن زدت على السبعين يغفر له) كذا للأكثر يغفر بسكون الراء جوابا للشرط. وفي رواية الكشميهني فغفر له بفاء وبلفظ الفعل الماضي وضم أوله والراء مفتوحة، والأول أوجه. قوله: (فعجبت بعد) بضم الدال (من جرأتي) بضم الجيم وسكون الراء بعدها همزة أي إقدامي عليه، وقد بينا توجيه ذلك. قوله: (والله ورسوله أعلم) ظاهره أنه قول عمر، ويحتمل أن يكون قول ابن عباس، وقد روى الطبري من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس في نحو هذه القصة " قال ابن عباس فالله أعلم أي صلاة كانت، وما خادع محمد أحدا قط " وقال بعض الشراح يحتمل أن يكون عمر ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم حين تقدم للصلاة على عبد الله بن أبي كان ناسيا لما صدر من عبد الله بن أبي وتعقب بما في السياق من تكرير المراجعة فهي دافعة لاحتمال النسيان، وقد صرح في حديث الباب بقوله " فلما أكثرت عليه قال " فدل على أنه كان ذاكرا. *3* الشرح: قوله: (باب ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره) ظاهر الآية أنها نزلت في جميع المنافقين. لكن ورد ما يدل على أنها نزلت في عدد معين منهم، قال الواقدي " أنبأنا معمر عن الزهري قال: قال حذيفة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني مسر إليك سرا فلا تذكره لأحد، إني نهيت أن أصلي على فلان وفلان رهط ذوي عدد من المنافقين؛ قال فلذلك كان عمر إذا أراد أن يصلي على أحد استتبع حذيفة، فإن مشى معه وإلا لم يصل عليه " ومن طريق أخرى عن جبير بن مطعم أنهم اثنى عشر رجلا، وقد تقدم حديث حذيفة قريبا أنه لم يبق منهم غير رجل واحد. ولعل الحكمة في اختصاص المذكورين بذلك أن الله علم أنهم يموتون على الكفر، بخلاف من سواهم فإنهم تابوا. ثم أورد المصنف حديث ابن عمر المذكور في الباب قبله من وجه آخر، وقوله فيه " إنما خيرني الله أو أخبرني الله " كذا وقع بالشك، والأول بمعجمة مفتوحة وتحتانية ثقيلة من التخيير والثاني بموحدة من الإخبار، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق إسماعيل بن أبي أويس عن أبي ضمرة الذي أخرجه البخاري من طريقه بلفظ " إنما خيرني الله " بغير شك، وكذا في أكثر الروايات بلفظ التخيير أي بين الاستغفار وعدمه كما تقدم، واستشكل فهم التخيير من الآية حتى أقدم جماعة من الأكابر على الطعن في صحة هذا الحديث مع كثرة طرقه واتفاق الشيخين وسائر الذين خرجوا الصحيح على تصحيحه، وذلك ينادي على منكري صحته بعدم معرفة الحديث وقلة الاطلاع على طرقه، قال ابن المنير: مفهوم الآية زلت فيه الأقدام، حتى أنكر القاضي أبو بكر صحة الحديث وقال: لا يجوز أن يقبل هذا ولا يصح أن الرسول قاله انتهى. ولفظ القاضي أبي بكر الباقلاني في " التقريب ": هذا الحديث من أخبار الآحاد التي لا يعلم ثبوتها. وقال إمام الحرمين في " مختصره ": هذا الحديث غير مخرج في الصحيح. وقال في " البرهان ": لا يصححه أهل الحديث. وقال الغزالي في " المستصفى ": الأظهر أن هذا الخبر غير صحيح. وقال الداودي الشارح: هذا الحديث غير محفوظ. والسبب في إنكارهم صحته ما تقرر عندهم مما قدمناه، وهو الذي فهمه عمر رضي الله عنه من حمل " أو " على التسوية لما يقتضيه سياق القصة، وحمل السبعين على المبالغة. قال ابن المنير: ليس عند أهل البيان تردد أن التخصيص بالعدد في هذا السياق غير مراد انتهى. وأيضا فشرط القول بمفهوم الصفة وكذا العدد عندهم مماثلة المنطوق للمسكوت وعدم فائدة أخرى وهنا للمبالغة فائدة واضحة، فأشكل قوله سأزيد على السبعين مع أن حكم ما زاد عليها حكمها. وقد أجاب بعض المتأخرين عن ذلك بأنه إنما قال " سأزيد على السبعين " استمالة لقلوب عشيرته. لا أنه أراد إن زاد على السبعين يغفر له، ويؤيده تردده في ثاني حديثي الباب حيث قال " لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت " لكن قدمنا أن الرواية ثبتت بقوله " سأزيد " ووعده صادق، ولا سيما وقد ثبت قوله " لأزيدن " بصيغة المبالغة في التأكيد. وأجاب بعضهم باحتمال أن يكون فعل ذلك استصحابا للحال، لأن جواز المغفرة بالزيادة كان ثابتا قبل مجيء الآية فجاز أن يكون باقيا على أصله في الجواز، وهذا جواب حسن، وحاصله أن العمل بالبقاء على حكم الأصل مع فهم المبالغة لا يتنافيان، فكأنه جوز أن المغفرة تحصل بالزيادة على السبعين لا أنه جازم بذلك، ولا يخفى ما فيه. وقيل إن الاستغفار يتنزل منزلة الدعاء، والعبد إذا سأل ربه حاجة فسؤاله إياه يتنزل منزلة الذكر لكنه من حيث طلب تعجيل حصول المطلوب ليس عبادة، فإذا كان كذلك والمغفرة في نفسها ممكنة، وتعلق العلم بعدم نفعها لا بغير ذلك، فيكون طلبها لا لغرض حصولها بل لتعظيم المدعو فإذا تعذرت المغفرة عوض الداعي عنها ما يليق به من الثواب أو دفع السوء كما ثبت في الخبر، وقد يحصل بذلك عن المدعو لهم تخفيف كما في قصة أبي طالب. هذا معنى ما قاله ابن المنير وفيه نطر لأنه يستلزم مشروعية طلب المغفرة لمن تستحيل المغفرة له شرعا وقد ورد إنكار ذلك في قوله تعالى ونحوه قول الزمخشري فإنه قال: فإن قلت كيف خفي على أفصح الخلق وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته أن المراد بهذا العدد أن الاستغفار ولو كثر لا يجدي، ولا سيما وقد تلاه قوله: وقد تعقبه ابن المنير وغيره وقالوا لا يجوز نسبة ما قاله إلى الرسول، لأن الله أخبر أنه لا يغفر للكفار، وإذا كان لا يغفر لهم فطلب المغفرة لهم مستحيل، وطلب المستحيل لا يقع من النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم من قال: إن النهي عن الاستغفار لمن مات مشركا لا يستلزم النهي عن الاستغفار لمن مات مظهرا للإسلام، لاحتمال أن يكون معتقده صحيحا. وهذا جواب جيد، وقد قدمت البحث في هذه الآية في كتاب الجنائز. والترجيح أن نزولها كان متراخيا عن قصة أبي طالب جدا، وأن الذي نزل في قصته ولعل هذا هو السر في اقتصار البخاري في الترجمة من هذه الآية على هذا القدر إلى قوله: وإذا تأمل المتأمل المنصف وجد الحامل على من رد الحديث أو تعسف في التأويل ظنه بأن قوله: وقد وقفت لأبي نعيم الحافظ صاحب " حلية الأولياء " على جزء جمع فيه طرق هذا الحديث وتكلم على معانيه فلخصته، فمن ذلك أنه قال: وقع في رواية أبي أسامة وغيره عن عبيد الله العمري في قول عمر " أتصلي عليه وقد نهاك الله عن الصلاة على المنافقين " ولم يبين محل النهي، فوقع بيانه في رواية أبي ضمرة عن العمري، وهو أن مراده بالصلاة عليهم الاستغفار لهم ولفظه " وقد نهاك الله أن تستغفر لهم " قال وفي قول ابن عمر " فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلينا معه " أن عمر ترك رأي نفسه وتابع النبي صلى الله عليه وسلم، ونبه على أن ابن عمر حمل هذه القصة عن النبي صلى الله عليه وسلم بغير واسطة، بخلاف ابن عباس فإنه إنما حملها عن عمر إذ لم يشهدها. قال: وفيه جواز الشهادة على المرء بما كان عليه حيا وميتا، لقول عمر " إن عبد الله منافق " ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم قوله. ويؤخذ أن المنهي عنه من سب الأموات ما قصد به الشتم لا التعريف، وأن المنافق تجرى عليه أحكام الإسلام الظاهرة، وأن الإعلام بوفاة الميت مجردا لا يدخل في النعي المنهي عنه. وفيه جواز سؤال الموسر من المال من ترجى بركته شيئا من ماله لضرورة دينية. وفيه رعاية الحي المطيع بالإحسان إلى الميت العاصي. وفيه التكفين بالمخيط، وجواز تأخير البيان عن وقت النزول إلى وقت الحاجة، والعمل بالظاهر إذا كان النص محتملا. وفيه جواز تنبيه المفضول للفاضل على ما يظن أنه سها عنه، وتنبيه الفاضل المفضول على ما يشكل عليه، وجواز استفسار السائل المسئول وعكسه عما يحتمل ما دار بينهما، وفيه جواز التبسم في حضور الجنازة عند وجود ما يقتضيه. وقد استحب أهل العلم عدم التبسم من أجل تمام الخشوع، فيستثنى منه ما تدعو إليه الحاجة، وبالله التوفيق الحديث: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يُكَفِّنَهُ فِيهِ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي عَلَيْهِ فَأَخَذَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِثَوْبِهِ فَقَالَ تُصَلِّي عَلَيْهِ وَهُوَ مُنَافِقٌ وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُمْ قَالَ إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ أَوْ أَخْبَرَنِي اللَّهُ فَقَالَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ فَقَالَ سَأَزِيدُهُ عَلَى سَبْعِينَ قَالَ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ الشرح: قوله: (باب قوله: الخصاصة فاقة) ولغير أبي ذر " الفاقة " وهو قول مقاتل بن حيان أخرجه ابن أبي حاتم من طريقه. قوله: (المفلحون الفائزون بالخلود والفلاح البقاء) هو قول الفراء، قال لبيد: نحل بلادا كلها حل قبلنا ونرجو فلاحا بعد عاد وحمير وهو أيضا بمعنى إدراك الطلب، قال لبيد أيضا " ولقد أفلح من كان عقل " أي أدرك ما طلب. قوله: (حي على الفلاح عجل) هو تفسير حي، أي معنى " حي على الفلاح " أي عجل إلى الفلاح قال ابن التين: لم يذكره أحد من أهل اللغة، وإنما قالوا معناه هلم وأقبل. قلت: وهو كما قال، لكن فيه إشعار بطلب الإعجال، فالمعنى أقبل مسرعا. قوله: (وقال الحسن حاجة حسدا) وصله عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عنه بهذا، ورويناه في الجزء الثامن من " أمالي المحاملي " بعلو من طريق أبي رجاء عن الحسن في قوله:
|